بسم الله الرحمن الرحيم
الشعب المصري شعبٌ ذوّاقة، يرتبط الطعام عنده ـ أحيانا ـ كأنه هدف أساسي للحياة، فلا وجود لحياة دون أكوام محترمة من الأرز، واللحوم، والبيض، والعدس، والبصل، وإذا سافر المصري إلى الخارج، فأول ما يبحث عنه، ويظل يحن إليه كلما وجد فرصة، هو طبق محترم من الملوخية، وحبذا لو كانت بالأرانب، أو صحن شافٍ من العدس، ورغيفان محترمان من الخبز البلدي "أبو شلن" وطبق بامية، وليمونة في حجم الكرة الأرضية، وبالطبع لا بد أن يكون بجانب هذه الأطعمة "فحْل بصل" من النوع السوبر، وثمرة طماطم بلدي من الوزن الثقيل.
ومنذ زمن ليس بالبعيد كانت وجبة الإفطار المقدسة لا بد أن تحتوي على عدد محترم من كُرات الطعمية والخبز البلدي، وصحن "شافي عافي" من الفول المدمس بالزيت الحار –إن وجد- أو بالثوم، أما أصحاب الحرف فكان سندوتش مسقعة -باذنجان يعني- وكوب من الشاي الثقيل قادر على إبقائهم في حالة الوعي حتى وجبة الغداء القادمة في منتصف اليوم، وهذا الغداء يتنوع بتنوع أيام الأسبوع، والقاسم المشترك في وجبات الغداء هو الأرز والعيش البلدي، ويتنوع الطعام في الغداء مع ارتباطه بأيام معينة في الأسبوع ارتباطًا شبه ثابت: يوم الجمعة هو يوم اللحم أو الفراخ، يوم السبت والاثنين يكثر الكشري والعدس، الثلاثاء للسمك، وهكذا...
والشعب المصري شعب محترم يكره التغيير، ولا يسعى إليه، بل إن بعض العادات الغذائية لا زالت موجودة داخل تلافيف عقل المصري، وداخل بطنه من أيام الفراعنة، ولكن -وللأسف الشديد- طرأ الكثير من التغيير على أبناء هذا الشعب المصري العزيز.
والتغيير له وجهان؛ وجه بدافع السلوك الاجتماعي، ووجه بدافع الفقر المدقع وحالة ارتفاع الأسعار؛ فأما عن السلوك الاجتماعي فهو نتيجة لغزو عالمنا منن قِبَل الموجة الرأسمالية المتمثلة في: البورجر والشيش طاووك والهوت دوج وموجة التيك أواي، فصار من العيب (ياي) أن تأتي بشطيرة من الفول المدمس إلى داخل الحرم الجامعي، أو رغيف عملاق من البابا غنوج، وسيعامل كل من يفعل مثل هذه الفعلة وكأنه جاهر بالرذيلة، أو وضع حزام ناسف حول وسطه.
والوجه الآخر والأكثر عذابًا هو وجه الفقر، فعندما درسنا الاقتصاد عرفنا أن تغير سعر منتج ضروري ومهم سيؤثر بالتالي على كل المنتجات الأخرى المرتبطة به، بطريقة أكثر عملية: ارتفع سعر زيت الطعام بطريقة جنونية؛ ليصل سعر زجاجة الزيت -الزيت التَّعبان- إلى اثني عشر جنيها، وهذا بدوره أدى إلى ارتفاع أسعار الطعمية العزيزة، فارتفعت أسعارها هي الأخرى، وصارت تشبه (البلية)، وهذا أدى إلى انصراف الناس عنها بشكل ما، فهي لا تشبع، ولا تسمن، ولا تغني من جوع، وهكذا تغير الحال، فالصنايعي المحترم الذي كان يفطر برغيف عملاق من الخبز موزع عليه بعض كرات الطعمية، وعليه شرائح الطماطم (الكيلو وصل خمسة جنيه)، ومعه حزمة كرّات محترمة (الحزمة وصلت إلى جنيه كامل)، لم يعد يحصل على ذلك، بل يمكن أن يقضي كل النهار على كوب شاي (السكر وصل ثلاثة ونص) من أجل أن يوفر ثمن إفطاره، ولكنه لن يضحي بالطبع بكوب لبن لأطفاله الذاهبين إلى المدرسة (كليو اللبن العادي بـ 3.5 والمبستر بـ 5 جنيه)، وشطيرة من أي شيء لزوم صلب الطول، وهذا الـ"أي شيء" قد يكون رغيف خبز (إن شاء الله حاف)، أو فينو أو كيزر، ولكن ارتفاع أسعار الخبز فضلاً عن صعوبة الحصول عليه قد تعني أن الأطفال سيوفرون بدورهم ثمن وجبة الفطار.
وفي أيام البرد الشديدة كان يفضل البعض صحن من العدس أو طبق محترم من الكشري الأصفر أو أبو جبة، ولكن هذا صار ذكرى من الماضي، فكيلو العدس وصل إلى تسعة جنيهات، وبحسبة صغيرة يمكن أن نحسب ثمن وجبة (قرديحي)، نصف كيلو عدس (4.5)، وكيلو ونصف أرز (الكيلو 4 جنيه يعني 6 جنيه)، ويطلب مع هذا على الأقل ربع كيلو زيت (3.00)، ولن يخلو الأمر من شوية طماطم مع نصف كليو خيار (الكيلو وصل 3.5)، ولن أتكلم عن الفلفل أو المخلل أو ليمونة لزوم المزاج، (الليمونة وصلت نصف جنيه).. وهذا يعني أن وجبة (قرديحي) تعني حوالي 20 جنيه مصري، فما بالك لو كان في الوجبة قطعة من اللحم (الكيلو 40 جنيه)، أو ورك فرخة (لحسن الحظ اختفت من الأسواق المصرية)..
فذلك الحِرَفِي الذي تكلمنا عنه سيضحي بكل سهولة أيضا بثمن وجبة الغداء من أجل أن يوفِّر، وقد يضحي بالعشاء، فكيلو الجبنة بالشيء الفلاني، ويختلف سعره باختلاف نوعه، وهو لن يقل في حالة الجبنة الطازة -التي تستخدم فيها بودرة الأسمنت بديلا عن اللبن- عن عشرة جنيهات، أما عن البيضة الواحدة فثمنها 75 قرشا، وكيلو الحلاوة الطحينية بـ..، وكيلو المربى بـ..، بالطبع سيتهمني البعض بالجنون؛ لأني أذكر الحلاوة والمربى، لقد اختفى الفول والطعمية، فماذا عن الحلويات والفاكهة؟!. لقد انقرضوا بالتأكيد!
وهذا يعني أن الأكلات البسيطة ستختفي من مائدة المصري، فمثلما اختفت اللحوم والدواجن والأسماك، فالأسماك بدورها ارتفعت أسعارها؛ نظرًا للإقبال عليها، وارتفاع أسعار كل شيء، فبلد البحر الأحمر والأبيض والألوان وعشرات البحيرات والترع والقنوات، تجد فيها سعر كيلو السمك العادي وصل إلى عشرة جنيهات، وهذا يعني أيضا أن تغير العادات الغذائية لن يؤدي إلى "اختلاف" الأنواع والأنماط الغذائية، بل إلى "اختفاء" أنواع غذائية تمامًا، ففي صغرنا مثلا دأبنا على صنع كعكة صغيرة في أيام الجمعة للاحتفال بيوم الإجازة، والآن صار كيلو الدقيق بـ 4.5 جنيه، فهذا يعني أن الكعكة الصغيرة ستتكلف ما يقرب من العشرة جنيهات، وهي تكفي؛ لكي يمد كل فرد من أفراد العائلة؛ ليأخذ (لحسة)!
وكل ما تكلمنا عنه -سيدي الفاضل- يدخل حتى الآن في حيز الأكلات الضرورية العادية، فلم أتكلم عن المناسبات والمواسم (كل سنة وأنتم طيبين)، أو الأكلات المزاجية مثل طبق كبدة بالشطة أو كيلو "كباب" أو "أم علي"، وربما حلة محشي، فأقل (كرنبة) في السوق سعرها 6 جنيه، هذا بجانب الأرز والطماطم وغيره، أما عن أسعار الكوسة أو ورق العنب والباذنجان وغيرهم من المحشيات الخفيفة، فحدّث ولا حرج، وعندما تخرج أي أم للتسوق، فستعود بالتأكيد من الخارج وهي على وشك الإصابة بنوبتها القلبية الأولى أو جلطة مخية، ونحن هنا نتحدث فقط عن الطعام، ولم نتكلم عن ارتفاع الأسعار في كل ما يمت لعالم الحياة بصلة، حديد تسليح، وأدوية، وكتب مدرسية، وأدوات النظافة، وذلك يعني أن الحصول على دواء عادي للبرد قد يتكلف التضحية بوجبة الغداء.
على باب إحدى المدارس وجدت "عم سامح" (الفرّاش) يضحك في جنون وهو يقول: المرتب 300 جنيه، والحوافز خمسة جنيه، أجيب منين؟.. أجيب منين؟..
وظل يكرر الجملة الأخيرة لمدة نصف ساعة، وهذا ما دفعني إلى كتابة هذا المقال؛ لعلي أخرج فيه شحنة الغضب المكبوتة، من فضلك عندما تقابل "عم سامح" لا تحدثه عن ارتفاع الأسعار، ولا تحدثه عن غزة والهولوكوست الإسرائيلي، فقط حدثه (كذبًا) عن قرب انخفاض الأسعار، وإلا فأنت ستتحمل ذنب جنون "عم سامح".
كنت أقرأ في القصص عن المعاناة فلا أصدقها، فمثلا يحصل البطل عن رغيف خبز، فيطير به فرحا، ويقسمه بحرص شديد على أربعة أيام كل يوم كسرة من الخبر، اليوم أصدق أن هذا قادم بسرعة، ربما أسرع مما نتصور!..