بسم الله الرحمن الرحيم
ربما سيبدو هذا المقال صادمًا؛ لا لغرابة موضوعه، ولكن لأن المناخ العام بعيد عنه.. الرأي العام سريع الاستثارة شديد التعصب.. ذو النظرة الأحادية التي يمكن تلخيصها في كلمتين "إحنا وبس".
رُوِّعنا كلنا بالمجزرة الصهيونية باردة الدم.. ستون شهيدًا قضوا نحبهم في ليلة واحدة.. محرقة كما وصفها الصهاينة أنفسهم.. نساء، وعجائز، وأطفال رُضَّع يبلغ عمر أحدهم يومين.. مات وعلى شفتيه بقايا اللبن.. مات وهو يحمل رائحة أمه.. مات وعلى خديه قبلاتها الطازجة..
شاهدنا كلنا الجثث المضرجة بالدماء.. ولحظات الاحتضار الصعبة لرجال يتلون الشهادتين.. لوعة الأمهات، وبكاء البنات، ورعب الأطفال.. والعدو الغادر الخسيس لا يحارب كالرجال.. وإنما يحلِّق في السماء ضاغطًا على زرِّ صغير يحمل الموت المؤكد لسجناء الأرض.. لوحة تشكيلية من الجثث الممزقة الملونة بالدماء.. صفعة على خد الأحرار.. وهزة لأكتاف الغافلين.. وتفسير جديد لمعنى الشهادة..
لا يفهم الأغبياء أن الظلم يولّد الانفجار، وكلما مات شهيد بُعِث شهيد.. وكلما قَضَى طفل وُلد طفل.. وإذا نُكس علم رفرف علم.. يحتمون وراء الجدر والقرى المحصنة غافلين عن الأنفاق يحفرها بالأظافر مكلومون يرومون الانتقام...
وفي كل مكان يتساءل العرب عن أحرار العالم!! لماذا سكت الرأي العام العالمي عن تلك المذابح؟ وكيف يجرؤ أمين عام الأمم المتحدة أن يدعو لوقف المواجهات الإسرائيلية الفلسطينية، وكأنها حرب عادلة أو مواجهة متكافئة؟.. هل الرفق بالحيوان أولى من الرفق بالإنسان؟.. أم إنه الدم العربي الرخيص؟..
أسئلة مشروعة، ولكنها ليست الأسئلة الوحيدة التي يمكن طرحها في هذا الصدد.. ثمة أسئلة مشابهة: أين كان الرأي العربي حينما وقعت اضطرابات كينيا، وقتل مئات الأبرياء ضربًا وحرقًا وسحلاً بسبب انتخابات رئاسية لا ناقة للشعب الأعزل فيها ولا جمل؟.. مغانم على السلطة يدفع ثمنها المدقعون الذين لا يملكون إلا كوخًا من سعف النخل، وبقرة عرجاء في الغابات الاستوائية..
كلنا شاهدنا الخبر، ونحن نأكل طعام العشاء.. لم يبطئ الفَكُّ وهو يمضُغ، ولا توقفت اللقمة في الحلوق وهي تُبتلع؟.. تسألني ما شأننا بذلك (وفينا اللي مكفينا)، وأسألك نفس الشيء: ما شأن الرأي العام الغربي بالصراع العربي الإسرائيلي؟
يقول القرآن الكريم مخبرا عن مبادئ التوراة العظيمة: {وَكَتَبْتَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}.. البشر كلهم ممثَّلون في إنسان واحد، والإنسان الواحد يمثّل البشر كلهم.. بعبارة أخرى: الكل في واحد، والواحد في الكل.. يمكنك أن تحتقر حياة إنسان.. ترويعه.. جوعه.. قتله.. هو مجرد نقطة في بحر.. رقم بين الأرقام.. واحد من آلاف الملايين.. ويمكنك أن ترى الأمر بشكل مختلف.. كل إنسان هو الإنسانية جمعاء.. حينما يصاب أو يقتل أو يهان فكأنما أصيبت وقتلت وأهينت البشرية كلها.
إن دمًا ليس أغلى من دم.. أربعون مليون أوروبي ماتوا أثناء الحرب العالمية الثانية، ومات أكثر منهم في الحرب العالمية الأولى.. مليون ضحية في رواندا ماتوا في جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأغلبية من الهوتو على يد الأقلية من التوتسي، ومئات الآلاف من النساء تم اغتصابهن..
تشرد مليون ونصف خارج البلاد فرارًا من الإبادة الجماعية.. يؤسفني أن العرب لم يفعلوا شيئا.. واصلوا الْتهام شطائر العشاء في برود أعصاب يُحسدون عليه.. يؤسفني أنني وقتها لم أهتم.. بعض الصحف المصرية تساءلت عن احتمالية تلوث مياه النيل بسبب الجثث الملقاة في منابع النيل في رواندا، فيما استظرف آخرون، وتحدثوا عن أصابع متسربة من صنبور الماء.. الغرب عالج الموضوع بطريقته: (لا يهمني في هذا المقال استقصاءها).. ولكني أروم تسجيل موقف الشارع العربي الذي لم تهتز منه شعرة.. ثم يأتي بعد ذلك ليغضب؛ لأن الرأي العام الغربي لا يقيل حكوماته من أجل الظلم الذي نتعرض نحن له.
معايير مزدوجة.. هذا أسوأ ما تُبتلَى به عقيدة، أو يضلل به شعب.. إن دمًا ليس أغلى من دم.. الدم المسلم كالمسيحي في حرمته، والدم السني كالشيعي في قداسته.. الإفريقي كالأوروبي.. من منا يعرف أي شيء عن حركة "الخمير الحمر" التي حكمت كمبوديا في السبعينيات، وأودت بحياة سبعة ملايين شخص تعذيبًا وتجويعًا؟.. هل خرجت من عندنا مظاهرة واحدة تندد أو تتعاطف؟ ولماذا ننتظر من الآخرين موقفًا لم نقفه نحن؟..
كوكب أرضي ملوث بالدماء.. وحكاية جنس بشري والغ في دم الجميع، منذ أن قتل قابيلُ هابيلَ والدم المشئوم لا يتوقف.. وحشية يفعمها التلذُّذ، وضحايا يُستمتَع بتعذيبهم، ومساجينُ قضوا نحبهم في زنازينَ لا تدخلها الشمس، يسطرون على جدرانها شكواهم بالدماء، وتتردد صراخاتهم المكبوتة بصدى الصوت، فيما يمارس إخوانهم في البشرية حياتهم الطبيعية فوق الأرض مستمتعين بالشمس والضوء والطيور ..
مشكلتنا أننا نتصور أن الحياة ستتوقف إذا انكسر أظفرنا.. ويقضي الواحد منا ليلته عاجزًا عن النوم؛ لأن فلانا نَظَر له في استهزاء، أو لأن رئيسه ضايقه في الصباح، أو لأن سيارته صدمها عابث وهرب.. نتصور أن السماء سترعد من أجلنا.. وننسى.. آه ننسى.. أن التتار قتلوا الملايين من الأبرياء.. نهبوا الدور، وحرقوا الكتب، ونشروا الرعب.. حتى كان المحارب التتري يطلب من أسيره الانتظار حتى يحضر السكين؛ ليذبحه فلا يجرؤ على الفرار!!
إن دما ليس أغلى من دم، والرحمة لا تتجزأ.. وكل من يملك جهازًا عصبيًّا محكمًا يشعر بنفس الألم الذي يشعر به الإنسان.. تذكروا العار حينما لم يجدوا وسيلة لإعدام الكتاكيت في مصر أرخص من الحرق.. كانت النيران تضطرم في تلك الكائنات البريئة المرهفة التي راحت تتواثب في النيران.. بعدها قال وزير الصحة: إن هناك وسائل أخرى أقل إيلاما لكنها مكلفة.. بعدها نذهب للصلاة، ونستمع إلى المواعظ الدينية، ونريد أن ندخل الجنة على الماشي!!..
{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}.. هذا المخلوق الذي نفخ الله في روحه، وأسجد له ملائكته، وفضَّله على الخلق اعتدى على حيوانات عجماء سخرها له الله.. وآذى الأشجار.. وسفك دماء إخوانه في البشرية.. ظلَمَ وعذَّبَ وفعل الأفاعيل.. بعدها يريد الرحمة بالتفصيل.. على مقاسه بالضبط.. ويطالب الآخرين أن يتبنوا قضاياه!..
ألف رحمة على شهدائنا الفلسطينيين في غزة.. ألف رحمة على الأفارقة في رواندا والصومال.. على ضحايا التتر والخمير الحمر.. ألف رحمة للكتاكيت.. للحمار الجائع يضربه صاحبه؛ لأنه غير قادر على جرّ العربة الثقيلة.. ألف رحمة للبؤساء والمعذبين في الأرض.. وحتمًا سيأتي يوم الحساب.. يوم العزاء للثكالى والمحزونين.. يوم القصاص من المتكبرين.. يوم تأسو الرحمة الإلهية جراح المعذبين.. لا تفرق بين إنسان وحمار وكتكوت.. لا تفرق بين دم عربي أو إفريقي أو كمبودي.. يوم يقوم الناس لرب العالمين...